كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال رحمه الله: فإن أبوا سقط أي إن أبى الشهود من البداءة سقط الحد، لأنه دلالة الرجوع، وكذلك إن امتنع واحد منهم، أو جنوا، أو فسقوا، أو قذفوا فحدوا أو أحدهم، أو عمى، أو خرس، أو ارتد، والعياذ بالله تعالى، لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء، وكذا إذا غابوا أو بعضهم، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وروى عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا، رجم الإمام، ثم الناس، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة. ذكره في النهاية.
قال رحمه الله: ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر علي رضي الله عنه، ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه؛ فإنه لا يقصد مقتله لأن بغيره كفاية.
وروي أن حنظلة استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه، وكان كافرًا فمنعه من ذلك، وقال: دعه يكفيك غيرك؛ ولأنه مأمور بصلة الرحم، فلا يجوز القطع من غير حاجة.
قال رحمه الله: ويبدأ الإمام، ولو مقرًا ثم الناس. أي يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرًا لما روينا من أثر علي رضي الله عنه؛ ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية بحصاة مثل الحمصة؛ ثم قال للناس: «ارموا»، وكانت أقرت بالزنا. انتهى محل الغرض من تبيين الحقائق ممزوجًا بنص كنز الدقائق.
هذا حاصل ما استدل به من قال ببداءة الشهود أو الإمام.
وذهب الك وأصحابه ومن وافقهم، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام؛ ولا غيرهم. واحتج مالك لهذا بأنه لم يعلم أحدًا من الأئمة تولى ذلك بنفسه؛ ولا ألزم به البينة.
قال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي: ولم يعرف بداءة البينة، ولا الإمام، ما نصه: قال مالك: مذ أقامت الأئمة الحدودن فلم نعلم أحدًا منهم تولى ذلك بنفسه، ولا ألزم ذلك البينة خلافًا لأبي حنيفة القائل: إن ثبت الزنا ببينة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس اه منه، واستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ برجم ماعز، وأنه قال لأنيس «فإن اعترفت فارجمها» ولم يحضر صلى الله عليه وسلم ليبدأ برجمها، وقول مالك رحمه الله إنه لم يعلم أحدًا تولى ذلك بنفسه من الأئمة، ولا ألزم به البينة يدل على أنه لم يبلغه أثر علي أو بلغه ولم يصح عنده.
وكذلك الحديث المرفوع الذي استدل به القائلون ببداءة والإمام، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رمى الغامدية بحصاة كالحمصة ثم قال للناس: «ارموا».
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما هذا الحديث المرفوع، فليس بثابت، ولا يصلح للاحتجاج، لأن في إسناده راويًا مبهمًا.
قال أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، عن زكريا أبي عمران قال: سمعت شيخًا يحدث عن ابن أبي بكرة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة ثم قال أبو داود: حدثنا: عن بعد الصمد بن عبد الوارث، قال حدثنا زكريا بن سليم بإسناده نحوه زاد: ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قال: «ارموا واتقوا الوجه» الحديث، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال: سمعت شيخنا يحدث عن ابن أبي بكرة، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة لم يدر أحد من هو، فهو مبهم، والمبهم مجهول العين والعدالة، فلا يحتج به كما ترى. وقال صاحب نصب الراية في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود التي سقناها آنفًا: رواه النسائي في الرجم.
حدثنا محمد بن حاتم عن حبان بن موسى، عن عبد الله، عن زكريا أبي عمران البصري قال: سمعت شيخًا يحدث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا الحديث بتمامه. ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه.
قال البزار: ولا نعلم أحدًا سمى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم، وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة النسائي، ولم يعله بغير الانقطاع اهـ. منه. وأي علة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور.
فتحصل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج.
أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه فقد قال البيهقي في سننه الكبرى في باب: من اعتبر حضور الإمام والشهود، وبداءة الإمام بالرجم ما نصه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو الجواب، ثنا عمار هو ابن رزيق عن أبي حصين عن الشعبي قال: أتى علي رضي الله عنه بشراحة الهمدانية قد فجرت فردها حتى ولدت، فلما ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء منها فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها ثم قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بالسنة ثم قال: أيما امرأة نعى عليها ولدها أو كان اعتراف، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم، ثم الإمام ثم الناس.
وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبأ أبو عبد الهل محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عبد الوهاب؛ أنبأ جعفر بن عون، أنبأ الأجلح عن الشعبي قال: جيء بشراحة الهمدانية إلى عليّ رضي الله عنه فقال لها: ويلك لعل رجلًا وقع عليك وأنت نائمة، قالت: لا قال: لعلك استكرهك؟ قالت: لا. قال: لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه، يلقنها لعلها تقول نعم، قال: فأمر بها فحبست، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فربها مائة، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة فأحاط الناس بها؛ وأخذوا الحجارة فقال ليس هكذا الرجم إنما يصيب بعضكم بعضًا صفوًا كصف الصلاة صفًا خلف صف؛ ثم قال: أيها الناس أيما امرأة جيء بها وبها حبل يعني أو اعترفت، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، وأيما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا فالشهود أول من يرجم، ثم الإمام ثم الناس. ثم أمرهم فرجم صف ثم صف، ثم قال افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم.
قال الشيخ رحمه الله: قد ذكرنا أن جلد الثيب صار منسوخًا، وأن الأمر إلى الرجم فقط اهـ. من السنن الكبرى بلفظه، وذلك يدل على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهو كذلك، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم كما هو معلوم.
وقال صاحب نصب الراية في أثر على هذا ما نصه: قلت: اخرجه البيهقي في سننه عن الأجلح عن الشعبي، قال جيء بشراحة الهمدانية إلى علي رضي الله عنه إلى آخر ما ذكرنا، عن البيهقي باللفظ الذي سقناه به، والعجب من صاحب نصب الراية، حيث اقتصر على رواية البيهقي للأثر المذكور من طريق الأجلح عن الشعبي؛ ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أو حصين فاقتصاره على رواية الأجلح عن الشعبي وتركه للرواية التي ذكرنا أولًا لا وجه له. والأجلح المذكور في إسناد المذكور: هو ابن عبد الله بن حجية بالمهملة والجيم مصغرًا. ويقال: ابن معاوية يكنى أبا حجية الكندي؛ ويقال اسمه: يحيى. قال فيه ابن حجر في التقريب: صدوق شيعي. وقال عنه في تهذيب التهذيب قال القطان: نفسي منه شيء. وقال أيضًا: ما كان يفصل بين الحسين بن علي بن الحسين. وقال أحمد: أجلح ومجالد متقاربان في الحديث. وقد روى الأجلح غير حديث منكر. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أقرب الأجلح من فطر بن خليفة. وقال ابن معين: صالح، وقال مرة: ثقة، وقال مرة: ليس به بأس، وقال العجلي: كوفي ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: ضعيف ليس بذاك؛ وكان له رأي سوء، وقال الجورجاني: مفتر: وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم، ولم أر له حديثًا منكرًا مجاوزًا للحد لا إسنادًا ولا متنًا إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق.
وقال شريك عن الأجلح: سمعنا أنه ما يسب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلًا أو فقيرًا: وقال عمرو بن علي: مات سنة مائة وخمس وأربعين في أول السنة، وهو رجل من يجلية مستقيم الحديث صدوق.
قلت: ليس هو من بجيلة، وقال أبو داود: ضعيف وقال مرة: زكريا أرفع منه بمائة درجة، وقال ابن سعد: كان ضعيفًا جداص. وقال العقيلي: روى عن الشعبي أحاديث مضطربة لا يتابع عليها. وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، حديثه لين. وقال ابن حبان: كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير. انتهى منه.
وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن الشعبي عن علي تعتضد برواية أبي الحصين له عن الشعبي، عن علي. وأبو حصين المذكور، هو بفتح الحاء، وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي أخرج له الجميع. وقال فيه في التقريب: ثقة ثبت سني وربما دلس. اهـ.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم وما احتج به كل منهم.
فاعلم أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام كما ذكرنا. وقول الإمام مالك رحمه الله: إنه لم يعلم أحدًا من الأئمة فعله يقتضي أنه لم يبلغه أثر علي رضي الله عنه المذكور، ولو بلغه لعمل به، والظاهر أن له حكم الرفع لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب المغني، وصاحب تبيين الحقائق يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي عللوا به القول به. وقال صاحب نصب الراية بعد أن ذكر رواية البيهقي للأثر المذكور عن علي من طريق الأجلح، عن الشعبي ما نصه: ورواه أحمد في مسنده، عن يحيى بن سعيد، عن مجالد عن الشعبي ثم ساق متن رواية الإمام أحمد بنحو ما قدمنا، ثم قال ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليًا رضي الله عنه ثم ساق الأثر بنحو ما قدمنا. ثم قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن الحسن بن سعيد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن علي، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدمنا. اهـ.
وهذه الروايات يعضد بعضها بعضًا وهي تدل على أن عليًا كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البينة، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد، ولم يعلم أن أحدًا أنكر عليه، ولهذا استظهرنا بداءة البينة والإمام في الرجم والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أن المرجوم أذا هرب في أثناء الرجم عندما وجد ألم الضرب بالحجارة فإن كان زناه ثابتًا ببينة، فلا خلاف في أنهم يتبعونه، حتى يدركوه، فيرجموه لوجوب إقامة الحد عليه الذي هو الرجم بالبينة، وإن كان زناه ثابتًا بإقرار فقد اختلف أهل العلم فيه.
قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المحصن: إذا أقر بالزنا فشرعوا في رجمه، ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما: يترك، ولا يتبع لكي يقال له بعد ذلك، فإن رجع عن الإقرار ترك، وإن أعاد رجم.
وقال مالك في رواية وغيره: إنه يتبع ويرجم. واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه؟» وفي رواية «هل تركتموه فلعله يتوب الله عليه» واحتج الآخرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم ذنبه، مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع، وقد ثبت إقراره فلا يترك حتى يصرح بالرجوع قالوا: وأنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع. ولم نقل إنه سقط الرجم بمجرد الهرب. والله أعلم انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي أنه إن هرب في أثناء الرجم لا يتبع بل يمهل حتى ينظر في أمره، فإن صرح بالرجوع ترك، وإن تمادى على إقراره رجم. ويدل لهذا ما في رواية أبي داود التي أشار لها النووي والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أن البكر من الرجال والنساء، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة، ولا خلاف فيه، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد. قال ابن قدامة في المغني: وهو قول الجمهور أهل العلم. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين، وبه قال أُبيّ وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم. وإليه ذهب عطاء، وطاوس، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي وإسحاق وأبو ثور: وقال مالك النووي والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجب التغريب على ذكر أو أنثى. وقال النووي في شرح مسلم: قال الشافعي والجماهير ينفى سنة رجلًا كان أو امرأة. وقال الحسن: لا يجب النفي. وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء، وروي مثله عن علي رضي الله عنه إلى أن قال: وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي.